الكتابة التاريخية .I
ينتسب د.عبد الواحد المكني الى كوكبة محدودة من الكتاب المؤرخين المتميزين بصفاقس. له بحوث عميقة ودراسات رصينة بذل فيها جهدا لافتا، أخذت طريقها إلى النشر على غرار كتاب “الحياة العائلية بجهة صفاقس بين 1875-1930 دراسة في التاريخ الاجتماعي والجهوي”(1996) والكتاب موضوع رسالة جامعية وأطروحة دكتوراه. قام بمراجعة هذا البحث والتأمل والتعمق فيه، واصدر على إثره كتاب “الأصل والفصل في تاريخ عائلات صفاقس”(ط1.-مارس2016- ط.2- نوفمبر 2016)، لقي هذا الإصدارنجاحا باهرا، بعد أن ضخ فيه أنفاسا متلاحقة لتقديم قراءة اجتماعية أنثروبولوجية للمجتمع المحلي بصفاقس. كتاب”شتات أهل وسلات من 1762 حتى بداية القرن العشرين، من تاريخ الأقليات بالبلاد التونسية ” (1998) وقد خاض في ينابيعهم العميقة عبر مجموعة من الدلائل والمؤشرات أسس من خلالها تاريخا مقروءا لأهل وسلات ولغيرهم
كتاب “النخب الاجتماعية التونسية زمن الاستعمار الفرنسي(1881-1956) الأشراف والبلدية مثالا” (2004)، وفيه حفر واسع لتضاريس الأعيان في المدن التونسية. كتاب”فرحات حشاد المؤسس الشاهد والقائد الشهيد”(2012)، أول ما يسترعي انتباه القارئ هو عنوان الكتاب، جاء مطعّما بإغراء السيرة الذاتية لهذا البطل الوطني
كتاب “صفاقس المحروسة”(2021) ومدينة صفاقس من أكثر المدن التونسية التي تكرّرت بشأنها عبارة “المحروسة” في الوثائق الأرشيفية منذ العهد الفاطمي، باعتبارها كانت عرضة للغزوات والهجمات، مما ساهم في فرادتها وميزة أسلوب عيش أهاليها وصمودهم في وجه المستعمر. هذا إلى جانب جملة من المقالات والبحوث في دوريات مختصة. وقد جاءت أعماله بأشياء جديدة أضيفت لنهر القراءة التاريخي الجاري على الدوام، ولا شك أنه بذل فيها جهدا كبيرا في القراءة والمقاربة
بعد فترة الاهتمام بالتأليف والنشر 1996 إلى 2012 استدرجه العمل كما يبدو بمخبر البحوث المتداخلة والمقارنة الذي يرأسه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية(LERIC)، وبصفاقس عاصمة للثقافة العربية (2016-2017) وبشغل خطة نائب رئيس جامعة صفاقس(2014-2017)، ثم برئاسة جامعة صفاقس لدورتين(2017-2023)، وطبعا كان غائصا في كلّ هذه الاهتمامات والمشاغل التي صرفته قليلا أو كثيرا عن القراءة والكتابة
مدخل جديد للتأليف في مشروع قائم على 3 كتب: مقالات تاريخية بحمولات سردية حكائي .II
شهدت كتابات د. عبد الواحد المكني سنتي 2021 /2022 لحظات قوية ومفصلية تجلّت فيها زاوية كتابة مختلفة، وفتح عيوننا عن فضاء جديد للتأليف لم نألفه منه. تمثل النموذج الأول في كتاب “زمن الأبيض والأسود، توارخ وتآريخ” (2021) والنموذج الثاني في كتاب “زمن الألوان، توارخ وتآريخ” (2022)
الكتابان متماسكان بنفس المحاولة، وبنفس العدة الثقافية والمرجعيات الفكرية التي يتم الاستناد إليها، ويتميّزان بنفس القوة في الامتاع، إلا أن الصياغة هجرت اللغة التاريخية، وصبغت بالروح الأدبية والزمن تغير والخرائط اختلفت والناس تبدلت
بماذا يمكن أن نفسر هذه الرجّة المكنية (نسبة إلى المكني)؟ هل أراد د. عبد الواحد المكني الانخراط في العمل ضمن مسار جديد، وفتح آفاق لقلمه في مجال آخر؟ أي هل أراد الابتعاد عن صرامة علم التاريخ والتحليل والتفسير والتأويل، والخروج من طوقه وحصاره، والكتابة بالتالي في زاوية مختلفة، بأسلوب سلس وجاذب، وبلغة أدبية مرحة أحيانا؟ بماذا يمكن توصيف هذا النص الجديد لدى النقاد، هل هو إنتاج أدبي، قد يفرز أدبا خلاقا مبدعا؟ أم أن النص الجديد هي مقالات أدبية بحمولة تاريخية يتحوّل فيها النص إلى حكايات بسطح أدبي وعمق تاريخي؟ أم هل أراد أن يخوض في تجربة، لم تكن معروفة لديه، ولكنها من صلب مخبره (مخبر البحوث المتداخلة والمقارنة) تقضي بالمزج بين التاريخ ومعارف الأبحاث في مجالات أخري، وهو ما يعرف بالدراسات البينية أو العلوم المجاورة، محاولا بذلك إحداث شبكة علائق بين التاريخ والأدب والقصة والمقال والحكاية…لنكتشف هذين الكتابين الممتلئين بكنوز النصوص الثقافية التي لا تقدر بثمن!، تميزا بفرادة وكيمياء خاصة، واسلوب شائق، وبصمة ذاتية. ولا أعتقد أنه يريد أن يؤسس عالما بديلا له عن التاريخ، إنما ليمنحنا مصدرا إضافيا لمتعة القراءة
في الكتاب الأول “زمن الأبيض والأسود”، كما في الكتاب الثاني “زمن الألوان” تتفرع فيه الذاكرة إلى ذاكرة فردية(المؤلف) وجماعية على نحو يهبها لونا اجتماعيا جمعيّا. ويولّد فيه الكاتب توليفة تمزج بين التذكر والتفكير والتأمل في مستوين زمنيين قريبين. فالكتاب الأول له صلة بزمن الطفولة عندما كانت التلفزة بالأبيض والأسود(1966) والدراسة الابتدائية والثانوية بجبنيانة… والكتاب الثاني يبدأ من سنة 1980 إلى سنة 2011، لم يستثن فيه أدق التفاصيل وجذب فيه ما كان مهمّشا إلى دائرة الضوء
وعلى سبيل الختام، كان الكتاب الأول مثل الكتاب الثاني محاولة لبعث تاريخ جديد للمكان وللزمان ينبني على الذاكرة والمتخيّل، قام فيه المؤلف باسترجاع قيم وأسماء وذكريات وشخصيات وعلامات ووقائع …ولم يسقط في النزعة الماضوية أي تمجيد الماضي أو في التاريخ الرسمي، فهو لم يسقط الأبيض والأسود، أو الضوء والظلمة، على الفترة الأولى ولا يعني أن الفترة الثانية موسومة بألوان البهجة. على ما اعتقد وسع المؤلف في كتابيه ساحة الحاضر الذي يتغذى عن طريق فعل التذكّر من الماضي القريب. وسيظهر ذلك جليا في كتابه الثالث الموسوم “زمن عمى الألوان”. وبذلك ينجز د. عبد الواحد المكني مشروعا متفردا، خصص له بحوثا ودراسات، لا تستوي إلا لمن انشغل عليها بعمق وتلذذ، ومن له عدّة فكرية ناضجة. ونغلق هذه الورقة بمشروعية التساؤل عن وسائل الاتصال التي لم تعتق أستاذنا من إحراج الاستهلاك الإعلامي وتجنب الظهور، لأن محرّك رغبته هي المعرفة وتعميم النفع وتقديم تجربة جديدة في سياق مشروع تاريخي /سردي يرتكز على كتب ثلاثة