اذا كانت الفلسفة هي حب الحكمة وهي الدراسة العامة والأساسية عن الكينونة والمعرفة والقيم والعقل والاستدلال واللغة كما صاغ تعريفها الفيلسوف وعالم الرياضيات فيثاغورس (570 – 495 قبل الميلاد) فأن الفلسفة و في اطار دورها التأويلي يمكنها أن تتوجه نحو العالم المعيش و أن تحيّن علاقتها مع الكلية وهذا ما سيجعلها تساهم في تحريك الألية الثابتة المرتبطة بالأداتية المعرفية و الممارسة الأخلاقية و التعبيرية و الجمالية (1).
فالفلسفة » تبقى كما العلوم موجهة تجاه مسائل الحقيقة لكنها على خلاف العلوم تقيم علاقة داخلية مع الحق و الأخلاق و الفن و هي تتفحص انطلاقا من منظورها الخاص مسائل المعيار و التقييم وبانخراطها في مسائل العدالة و الذوق و التجارب الجمالية تحتفظ لنفسها بالقدرة الفريدة على الانتقال من خطاب لأخر »(2)، وهي نقد للتصور الذي كوّنه التراث الفلسفي حول نفسه، حيث أصبحت تؤكد على ضرورة نقد عقلاني(3).
واذا أردنا ترجمة فعل التفلسف راهنا أي بعد أكثر من 2500 سنة من تأسيس « حب الحكمة » فأننا سنكون وجها لوجه أمام إعادة أحياء هذا المفهوم لأن الفلسفة كانت ولا تزال الحكمة عينها رغم محاولة العديد من المتسلقين في الفكر إجهاضها وإبعادها وإقصائها،ليكون الحل الوحيد والأوحد هو أن تأخذ الفلسفة مكانها لأنها وبكل بساطة باتت مطلبا ملحا في عصرنا الراهن عصر الوهن والألم والمرض والموت،عصر بحاجة الى فكر فيلسوف متمكن من آليات التحليل والتفكيك والقراءة والتشخيص وتقديم البديل ،فالفيلسوف هو طبيب البشرية ،طبيب الإنسان المريض » أحد الأمراض الجلدية للأرض » بتعبير نيتشه لتكون الجينالوجيا قائمة على كشف الوجوه المسمومة .
فالعمل على صياغة « الفيلوتيرابي » أوفعل التفلسف راهنا هو التأسيس لفعل المقاومة من اجل حياة خالية من الأوجاع والأمراض ومن كل أشكال الألم اليومي على الإنسان والإنسانية عبر التأسيس لفلسفة قوامها « ايتيقا العيش المشترك او العيش معا » كما عبر عنه فتحي التريكي، لأن ما بحاجة اليه الإنسانية اليوم هو التأسيس لأفق كوني إنساني تلتقي فيه كل الأفكار بعيدا عن الإيديولوجيات المقيتة وعن السفسطائية الأليمة ترسيخا وتأسيسا للشعار الكانطي « الأرض وطن للجميع » خاصة وإذا علمنا ان الخلاص يعتمد على » الصدع الصغير في الكارثة المستمرة » مثلما عبر عنه فالتر بنيامين » .
ف »الفيلوتيرابي » يجعلنا نذهب مذهب القول بالقيمة الطبية والصحّية للفلسفة داخل المجتمع وداخل الدولة،فالدولة التي تخلت عن الفلسفة هي دولة تخلت عن الدواء والشفاء للناس، ونعني به الشفاء والفكري، ذلك الشفاء المحقق للأتراكسيا والسكينة كما عمل على صياغته سابقا أبيقور او ما صاغه نيتشه في مفهوم « الطبيب الفيلسوف » الساهر بالليل والنهار على علاج الإنسانية من كل الهموم ،أو ما صاغه الكندي في كتابه « الحيلة في دفع الأحزان » في سبيل تحقيق قدر أكبر من السعادة .
أو ما ذهب اليه رأسا ابن مسكويه في مؤلفه « تهذيب الأخلاق » حينما قال » لما كان طب الأبدان ينقسم بالقسمة الأولى إلى قسمين، أحدهما حفظ الصحة إذا كانت حاضرة، والآخر ردها إليها إذا كانت غائبة، وجب أن نقسم طب النفوس هذه القسمة بعينها فنردها إذا كانت غائبة ونتقدم في حفظ صحتها إذا كانت حاضرة »، ليكون الفيلسوف هو طبيب البشرية والإنسانية القادر على التشخيص وإماطة اللثام وكشف المنكسف وتقديم البديل في كل لحظة عين دون مزية ودون حسبان لأنه وبكل بساطه صديق المفهوم والحكمة في ان واحد.
فليس الهاجس،هنا، هاجسا ميتافيزيقيا، بل هو هاجس تواصلي بالأساس و قد اوضح هابرماس ذلك بصيغة لا لبس فيها حينما قال: » لقد شرعنا في السنين الأخيرة، انا و زميلي كارل اوتو ابل في محاولة إعادة صياغة ما نسميه تأسيس المعايير،أي الأخلاق الكانطية، اعتمادا على وسائل مستمدة من نظرية التواصل »(4)
فالفلسفة حسب هابرماس عليها سحب البساط من تحت « اقدام العقل التقني بغية بلورة نظرية فلسفية نقدية تعمل على تحرير الإنسان و تحرير محيطه من هيمنة العلم و التقنية؛ انها نظرية تقرن النظر بالعمل؛ اذ في المصلحة التحريرية و الانعتاقية للإنسان تجد الفلسفة مكانها »، حسب هابرماس.
فأن يكون فعل التفلسف راهنا مرتبطا بمسألة « الفيلوتيرابي » هو ما يعني رأسا أن تسلك الفلسفة طريقا مغايرا وهو العودة الى طريقها الأول الذي تعلمت فيه المشي وهو طريق حب الحكمة وطريق تحصيل الشفاء والأتراكسيا ليكون صاحب الفلسفة هو صاحب فكر تحليلي نفسي،سلوكي وان لزم الأمر يكون تحليلا فلسفيا سريريا ،لتكون الفلسفة بذلك هي « الفارمكون » حسب صياغة داريدا أي هي السم والدواء الدال على الشفاء رغم الألم(5)،أي هي الفلسفة التي يكون مكانها الطبيعي وسط الناس وبها نكون قادرين على الحياة وفعل العيش مثلما صاغ ذلك أيضا الكاتب والباحث المغربي سعيد ناشيد صاحب كتاب « التداوي بالفلسفة » (6).
ولعل هذا لا يختلف كثيرا عمّا ذهب اليه الباحث البريطاني » ألن دي بوتون » في فلسفته التي تُناقش مختلف القضايا المعاصرة، مؤكدا على أهمية الفلسفة في حياتنا اليومية وما ترجمه أيضا في كتابه « عزاءات الفلسفة » لتكون الأخيرة بمثابة العلاج والنبراس الذي ينير عتمة الحياة وبعبارة أخرى تصبح الفلسفة هي العزاء بشأن الإحباط والعزاء بشأن العجز والعزاء بشأن انكسارات القلب والعزاء بشأن المصاعب(7) أو هي طريقة حياة حسب بيير هادو الذي نظر بدوره الى الفلسفة كجملة من التمرينات الروحية، او الإجراءات التدبيرية التي تروم تحقيق السعادة من خلال تفعيل نمط خاص في الحياة.
ان الفلسفة اليوم أمام مفهوم في غاية من الأهمية وهو مفهوم الأزمة ، فإذا كانت « الأزمة » كما حلّلها مؤسس الفلسفة الفينومنولوجية إدموند هوسرل في كتابه الموسوم ﺑ « أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية » حمالة أوجه ولها أكثر من دلالة فإنها تعني في ما يمكن أن تعنيه ذلك الوصف الذي يتصيّر بوصفه فعل فلسفة وهو الكاشف عن نزعة عقلانية ضالة تعاني من التيه،أي أزمة تنشبك فيها المعاني الإنسانية التي ظلت تتخبط في دائرة بربرية أو هي الأزمة التي اتخذت طابعا سياسيا وأخلاقيا ضمن سياق تاريخي إثر صعود النظم الشمولية كالستالينية والفاشية والنازية، التي سخرّت المعارفَ العلمية والتكنولوجية قصد تحقيق الهيمنة والتحكم في الأفراد و الشعوب وما نجم عن ذلك من تهديد الإنسانية برمتها بالفناء كالحروب المدمرة للجنس البشري والصراعات الإيديولوجية(9) فهذه الأزمة هي التي اقترح هوسرل حلا للخلاص منها عبر « أفولُ أوربا في اغترابها عن المعنى العقلي لحياتها والسقوط في عداء الروح وفي البربرية، أو انبعاث أوربا انطلاقا من روح الفلسفة بفضل بطولية للعقل تتخطى النزعة الطبيعية نهائيا (10).
ان الفلسفة بهذه الصيغة تكون وسيلة خلاص،وسيلة تهذيب للإنسان والإنسانية ولعلاج أمراض العصر وحتى لعلاج الأحزان في سبيل تحصيل السعادة الكامنة كمون النار في الحجر مثلما عمل على ذلك ابن مسكويه من خلال مؤلفه “تهذيب الأخلاق” بأن الفلسفة تتمثل في ممارسة طبّ النفوس وعلاج أمراضها سواء كانت بسيطة أو معقدة وهو الذي يقول في المقالة السادسة من كتابه “نبتدئ بعون الله وتوفيقه وتأييده في هذه المقالة بذكر شفاء الأمراض التي تلحق نفس الإنسان وعلاجها ونذكر الأسباب والعلل التي تولدها وتحدث منها”.
فأن تفكر الفلسفة في الأزمة وفي إدارة الأزمات ليس بالشيء المستغرب او هو بالفعل الهجين عنها باعتبار أن الفلسفة منذ ولادتها حاولت العمل من اجل الـتأسيس لفعل اللوغوس اي فعل العقل وقوة الفعل من خلال الفكر وإعطاء صلاحية كبرى للفيلسوف على التدبير وعلى نحت المفاهيم وعلى النظر في النظر بعين مغايرة من اجل البحث عن المنكسف في المنكشف ولمزيد تمتين العلاقة بين الإنسان وفكره من خلال مواصلة التجرؤ على استخدام العقل والنظر الى ما يعيشه هذا الإنسان من أزمات مفخخة قد تحول بينه وبين التفكير والمعيش اليومي، وبالتالي أن تسلك الفلسفة طريقا مثلما اسسه أفلاطون أي تأسيسا لفلسفة التطهير la philosophie de la perversion قوامها تطهير النفس من كل شرّ، أي تطهير الروح من كل رذيلة ومن كل جهل ، ليكون السبيل الوحيد للخلاص من كل هذه العاهات هو الفلسفة والذي سيكون العلاج الوحيد للتخلص من كل تلك الآثام والالام التي ألمت بالانسانية، رغم ان ضريبة التفكير وضريبة التفلسف ليست بالأمر الهيّن وتتطلب ضربا من الشجاعة الايتيقية.
الهوامش
1 – Habermas J, Morale et communication: conscience morale et activité communicationnelle,Tr ; Flammarion, p39
2-نفس المرجع 86
3-J Habermas, profils philosophiques et politiques ,p43.
4- J.Habermas, Ethique de la discussion, p.15
5-جاك داريدا:صيدلية أفلاطون،ترجمة كاظم جهاد دار الجنوب للنشر ،1998 ص9
6-سعيد ناشيد: التداوي بالفلسفة،دار التنوير للطباعة والنشر 2018.ص13.
7-ألن دي بوتون: عزاءات الفلسفة،دار التنوير للطباعة والنشر 2016.
8-: بيير هادو :الفلسفة طريقة حياة :التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو ،ترجمة وتقديم عادل مصطفى ، رؤية للنشر والتوزيع-2019 .
9-كمال بومنير،“أزمة العلوم ومفارقات الحداثة بين الفلسفة الفينومينولوجية والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت »،موقع كوة نشر يتاريخ 12 يوليو 2018
10-إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية و الفنومنولوجيا الترنسندنتالية. ترجمة إسماعيل مصدق، بيروت، المنظمة العربية للترجمة 2008، ص
بقلم:علي البهلول-باحث في الفلسفة
-جامعة صفاقس-