مكان النشر: تونس
الناشر: مكتبة علاء الدين
تاريخ النشر: 2021
عدد الصفحات: 184
يقترح الكتاب السخرية الغنائيّة موضوعا للنقاش، والبحث في آليّاتها وأساليبها التبليغية، باعتبارها جنسا غنائيّا فريدا يختلف عن باقي أجناس الغناء. فالغناء الساخر والتهكّمي حمّال لجملة من الرسائل ذات المضمون الهادف، ولجملة من الدلالات والصور والتمثّلات الحاضرة في الذاكرة الجماعيّة لمجموعة اجتماعية محدّدة. ويشكّل الكتاب نافذة إضافية للإطلال على موضوع السخرية عموما، وقراءة إضافيّة فيه، تنضاف إلى مختلف القراءات التي أنجبتها بحوث عديدة حول السخرية المكتوبة عموما، في مختلف الأجناس الأدبية وفي الشعر والمسرح. غير أنّ ما يميّز طرح الكتاب أنه يتجاوز قراءة النص المكتوب ليعالج المسألة في مستوى الفعل التلفّظي، أي دراسة السخرية في وضعية الفعل والممارسة. وتكمن قيمة النظر من هذه الزاوية في أهميّة التلفّظ خلال الأداء لتبليغ مقاصد النص، حيث تكون حاسمة في جذب اهتمام السامع وتعميق مستوى التلقي، أو العكس في ضياع جوهر النص ومعانيه. ولعلّ ما ساعدنا على خوض المسألة هو توفّر المادّة الصوتيّة التي يمكن الاشتغال عليها تفكيكا وتحليلا، بعكس النصوص المكتوبة التي تتحدّد مجالات البحث فيها في المعاني التي تلفّ العبارة -مفردة كانت أو مرّكب- ولا تقدّم أية فكرة عمّا أراده الكاتب من نطق وتعبير صوتي. لذلك تركّز السؤال المركزي للبحث حول ماهيّة العناصر التي تضفي على الخطاب الموسيقي المُغنّى بعدا ساخرا وتهكّميا؟ هل هي متولّدة عن معاني الملفوظ من النص الشعري، أم نابعة كذلك من مضمون الصياغة الموسيقية، مقاميّا وإيقاعيّا وآلاتيّا، أم مرتبطة بأسلوب التنفيذ غناءً وعزفا؟
لقد بدا لنا منذ البداية أنّ الخصائص الصوتيّة تمثّل أساسا عنصرا محفّزا لمجموعة من التمثلات خلال التواصل اليومي، لذلك فإنّ اختيار المؤلّف الموسيقي لصيغ لحنيّة بعينها تدعم المعنى الملفوظ من الكلام، واختياره صيغا إيقاعية محدّدة تؤطّر زمنيّة اللحن وتتناسق مع الإيقاع اللفظي وتتواءم مع المعنى العام الملفوظ، واختيار مواطن التنبير، وتحديد تقنية الصوت المناسبة، إنّما تندرج كلّها ضمن استراتيجيات القول اللاحقة لتطريز الكلام. ويسعى المؤلّف من وراء ذلك لتعميق التأثير ورفع منسوب الانفعال المباشر بغية تحقيق قدر عال من التواصل مع السامع المتلقّي، وتبليغ محتوى النص الملفوظ والمواقف المتضمنة فيه. يسعى المغنّي، ومن ورائه المؤلّف الموسيقي، لاستدراج السامع وشدّ انتباهه والسعي للفعل في أحاسيسه ومشاعره وأفكاره. فالخطاب البلاغي في الموسيقى مثل غيره في الكلام يقال ليُعجب ويُقنع ويدافع عن قناعات صاحبه ويدحض قناعات الطرف المواجه في الخطاب، خصوصا إذا كان النص الشعري حمّالا لأفكار مبتكرة أو متباينة مع السائد ومقابلة لخطاب التملّق وكسب رضا المتلقّي.
وقد دفعتنا تساؤلاتنا للتوجّه نحو المقاربة اللسانية للاطلاع على البحوث التي تناولت مسألة الكلام في مستواه الفعلي وتداوله بين الأفراد والمجموعات، غاية الاستئناس بمنهجها وآليات البحث الخاصة بها، وهو ما قادنا للوقوف على البعد التطريزي في عملية التلفّظ والقول، أو العناصر فوق التركيبية التي تلفّ الملفوظ فتشحنه طاقة تعبيرية موازية لمعانيه الأساسية. وقد دفعنا ذلك للتساؤل مجدّدا عن علاقة ذلك بالغناء عموما، وإلى أيّ مدى يمكن التمييز بين بنية الخط اللحني التركيبية، وما يغلّفها من عناصر تطريزية متنوّعة؟ وهل يمكن الفصل بين هذا وذاك؟
وقد ارتأينا أن ندعم الجوانب النظرية التي تطرّقنا إليها بدراسة تطبيقية على إحدى النماذج الغنائية العربيّة الساخرة، فكان الاختيار على الرصيد المهمّ الذي تركه الشيخ إمام عيسى (1918-1995) والذي ارتبط بمسيرته الغنائية النضالية التي خاضها إثر هزيمة 1967، وما تلاها من انتكاسات وهزائم، وهي في اعتقادنا المدوّنة الأكثر تمثيلا للطرح الذي قصدناه، باعتباره يتوجّه بسخريته للطبقة السياسية الحاكمة، ليكون مباشرا في خطابه دون تورية ولا تخفّي. وقد تركّز عملنا على البحث في آليات التعبير التي اعتمدها الشيخ إمام لصياغة خطابه الغنائي الساخر والرديفة للمعاني الشعرية
يتوزّع مضمون الكتاب على فصلين رئيسيين، وانقسم كلّ فصل إلى عدد من العناصر التي سعت للإحاطة بالموضوع من جوانب مختلفة. فعالج الفصل الأوّل الجوانب النظرية والمفاهيمية المحيطة بالموضوع، ومنها على وجه الخصوص مفهوم السخرية وما يحيطه من تعدّد المعاني ارتباطا بالتراث اللغوي العربي من جهة، وبالنقل المصطلحي من لغات أجنبية من جهة ثانية. كما لامس مسألة السمات الصوتية والتطريزية المرتبطة باللغة في وضعية ممارستها قولا وغناءً. كذلك، تبسّط الفصل في عرض الفروقات الجوهرية بين الغناء السياسي الساخر، وبين الغناء الهزليّ أو الفكاهيّ، ارتباطا بمقاصد كل جنس، ودوافع انتاجه، والجمهور المتلقّي له، وتداعياته على مختلف الأطراف المرتبطة به. وسيسهم هذا الجانب من التحديد المفاهيمي في رفع الالتباس حول مختلف الأجناس الغنائية التي تستحضر الضحك في الظاهر، لكنها تختلف في غاياتها ومقاصدها. وقد رأينا من المفيد تقديم قراءة أنثروبولوجية في موضوع السخرية باعتبارها سبيلا معتمدا في مختلف الثقافات للتعبير والتبليغ والإقناع والمواجهة، وقادرة على تحديد شكل العلاقة بين المخاطِب والمخاطَب، وئاما أو خصاما. فرصدنا مختلف القنوات التعبيرية الساخرة التي عايشت الأغنية وحاذتها، من شعر وحكاية وطرفة ومقامة، ورسم وحركة. وفي هذا الاتجاه، تبرز أهميّة الاطلاع على الامتداد التاريخي الذي أرسى مختلف هذه التمظهرات التعبيرية والظروف التي حفّت بتداولها وتبادلها
وخصصنا الفصل الثاني للجانب التطبيقي بدراسة المثال الذي اخترناه منذ البداية، وتبئير زاوية النظر حول أعمال الشيخ إمام الساخرة قصد الإلمام بخصوصياتها الموسيقية والتعبيريّة. وقد ارتأينا منذ البداية تجنّب الخوض في الجانب الشعري –على أهمّيته- وتحليل أسلوبيته، إيمانا منّا بعدم أهليتنا لتحليل النص الشعري العامّي، في مستوياته التركيبية والدلالية والتداولية المفترضة، والتي تتباين بدورها عن البناء الشعري الفصيح. وقد وجدنا من الضروري والمفيد الإحاطة بمسيرة الشيخ إمام ولو باقتضاب، والاهتمام بالبيئة الموسيقية والثقافية والجغرافية والسياسية التي اتّسعت لغنائه السياسي، وشكّلت حاضنته القوية. وقمنا بضبط المدوّنة الغنائية الساخرة بحسب ما وصل إلينا من المراجع المكتوبة والمسموعة المتوفرة. ثم توجّهنا لاستنطاقها وتحليل نماذج منها بحثا عن إجابات للإشكالية المطروحة
بيّنت لنا المقاربة التحليلية أساسا حياد عناصر اللغة الموسيقية، المقامية والإيقاعية، تجاه الخطاب الساخر، بمعنى عدم وجود أجناس مقامية محدّدة ترتبط بهذا الجنس الغنائي. فقد توسّل المؤلّف مختلف الأجناس المقامية المتداولة في التأليف الموسيقي العام دون التركيز على إحداها أو بعضها، داحضا بذلك فرضية ارتباط أي جنس مقامي بدلالة السخرية. ثمّ بيّن تحليل عدد من الأعمال تلازم الصياغة اللحنية-الإيقاعية بمضمون النص، في جوانب مختلفة، ارتبطت أساسا بالبناء الداخلي، مسافات وتراكب وتآلف. لذلك لم ينحصر تبليغ معاني السخرية داخل حدود الكلمة في معناها المعجمي أو ما لفّها من معاني الحواف، بل شكّلت الصياغة اللحنية إطارا موازيا لتبليغ دلالات المفردات. وكشف التحليل لاحقا عن مكانة « عناصر التطريز اللحني » في تبليغ المعنى الساخر، التي شكّلت مع الصياغة اللحنية كلاّ متلازما يعمّق المعنى المقصود وينفذ بأكثر عمق إلى ذهن المتلقّي. لذلك فإنّ الخطاب الموسيقي الساخر يرتكز أساسا على دعامتين رئيسيتين: الصياغة اللحنية-الإيقاعية أوّلا والعناصر التطريزية الصوتيّة ثانيا
تميّزت أعمال الشيخ إمام في غالبها بأسلوب تأليفي محافظ نسبيا، برز أساسا في اعتماده على القوالب الموسيقية المتداولة، وفي اتباعه صياغة مقامية والإيقاعية منضبطة للقواعد المقامية. لكنّ برز تفرُّد المؤلّف في توظيفه للعناصر الصوتيّة التطريزية التي دعّمت الخط اللحني وحقّقت بعدا ثالثا لكلّ عمل. ومن المؤكّد أن الشيخ إمام قد تأثّر بالبيئة السمعيّة والموسيقية التي أتقنت أساليب السخرية الملفوظة قولا وغناء، كما تأثر بشكل مباشر بأسلوب سيّد درويش الساخر وكذلك زكريا أحمد ونجيب الريحاني ومصطفى أمين وغيرهم، وردّد أعمالهم وأضاف إليها من روحه التلقائية والخلاّقة
يتأطّر البحث في الخطاب الغنائي السياسي الساخر داخل السؤال الأنثروبولوجي لا ريب، باعتبار أنّ فعل الكلام عموما وفعل الغناء يندرجان ضمن جملة الأفعال والممارسات التي ينتهجها الفرد أو المجموعة لعقد الروابط الاجتماعية وتمتينها أو لتعميق قطيعتها. والغناء الساخر شكل من أشكال المقاومة يتوسّلها الفرد كما المجموعة للدفاع عن الذات من أجل البقاء أو العيش في ظروف أفضل. وهي تبرز بالتالي مظهرا إضافيّا من علاقة المحكوم بالحاكم، وتنبؤ تداعياتها عن علاقة الثاني بالأوّل. فهي صوت الفئات الاجتماعية المقصيّة والمهمّشة التي تبحث دوما عن وسائل تعبير فريدة ومستفزّة لمقارعة خطاب الفئات المسيطرة والحاكمة. وتتأطّر المقاربة التحليلية لمفردات الخطاب الساخر داخل السؤال الأنثروبولوجي، باعتبارها تقدّم فكرة عن آليات شكل من التواصل التلفّظي داخل مجموعة اجتماعية محدّدة، انطلاقا من فرضيّة تفيد بأن المؤلّف الموسيقي لا يخترع هذه الآليات من محظ خياله، وإنما يستمدّها ويستقيها من بيئته ويدخل عليها لمساته الإبداعية
لذلك فإنّ ما طرحناه في هذا الكتاب سيشكّل قاعدة أوّلية لمواصلة العمل في هذا التوجّه وتخيّر تجارب تأليفية أخرى سابقة أو معاصرة، تبحث في دوافع الخطاب الظاهرة والمخفية في مستويين، تعاقبي وتزامني، وفي آلياته واختلافه من بيئة لأخرى، والتغييرات التي قد تكون حصلت بين زمن وآخر لتعقّب تحوّلاتها وإعادة تشكّله